وصف الكتاب:
فيمثل البحث العلمي عمادا من أعمدة كل أمة تسعى نحو الحضاري والرقي، والحضارة أشبه بالبناء الشامخ، يقوم عليه فريق كبير، بتخطيط وتنظيم محكم، نحو تحقيق المبادرات والأهداف، من خلال مؤشرات أداء ونجاح، متناغمة مع الرؤية والرسالة، منضبطة بالقيم الحاكمة، منفذة من خلال الأفراد والشركاء، وكل عضو في الفريق يدرك دوره في تحقيق الرؤية والرسالة، ويعتبر ما يفعله لبنة نحو تحقيق ذلك المشروع. ولا قيام للأمم إلا من خلال العلم النافع والعمل الصالح، والعناية بالعلم دين يتعبد به من جهة، وإصلاح في منظومة الدولة والمجتمع من جهة أخرى، وإن إدراك الباحث المجد لدوره في نهضة مجتمعه يسوقه نحو البذل والعطاء، والتجديد والإبداع، وتقديم الاقتراحات والحلول التي تسهم في النهضة الحضارية المنشودة. وهذه رسالة الأخ العزيز د. فضل بن يسلم صنبور اليماني، الموسومة بـ ( الوسائل الوقائية من الإفلاس في الفقه الإسلامي القانوني.. دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقوانين العربية؛ اليمني والمصري السوداني والكويتي والسوري والأردني)، وهي في أصله ارسالة جامعية نال بها صاحبها درجة الدكتوراه في الفقه الإسلامي من جامعة السودان المفتوحة. ودكتور فضل رجل ذو وفاء ورقة، وليس أدل على ذلك من إهدائه الرسالة لزوجته وما وصفها به من الصابرة المثابرة، ثم لأولاده، ثم لأبويه وللجامعة والأساتذة وغيرهم ممن كان له عون ولو معنويا في إنجاز الرسالة، وهو ملمح يدل على كريم خلق صاحبه. وقد امتاز هذا البحث أنه قد جمع في دراسته بين الأحكام الفقهية والقوانين الوضعية في عدد من الدول العربية، وهو ملمح من ملامح التجديد في الدراسات الفقهية المعاصرة، فالفقه والقانون وجهان لعملة واحدة، لا ينفك أحدهما عن الآخر. وقد أدرك أهل القانون في بلاد غير المسلمين أهمية الفقه الإسلام، كأهم مصادر التقنين المعاصر، فنادوا في أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس عام 1951م بضرورة إعادة صياغة الفقه الإسلامي بشكل موسوعي؛ حتى يتسنى لهم الاطلاع عليه أولا، ثم الاستفادة منه في التقنين المعاصر ثانيا، وبدأت الجهود في كلية الشريعة بدمشق، ثم تحولت إلى موسوعة جمال عبد الناصر، ولم تكتمل، ثم كانت الموسوعة الفقهية الكويتية التي قدمت التراث الفقهي في خمسة وأربعين مجلدا، وكانت الفكرة منطلقا قانونيا. كما لا ينسى أن مدرسة التجديد الفقهي المعاصر انطلقت في مصر من خلال مدرسة الحقوق العليا التي أصبحت فيما بعد كلية الحقوق جامعة القاهرة، وإنشاء قسم للشريعة الإسلامية بكليات الحقوق، فكانت كتابات المجددين خاصة في أصول الفقه منطلقا للتجديد الفكري والفقهي والحضاري، من أمثال الشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ الخضري، و الشيخ عبد الوهاب خلاف وغيرهم. لقد كان النظر إلى الدراسات القانونية عند بعض الطوائف- وما زال بعضها موجودا خفية- أنها رجس من عمل الشيطان، على اعتبار أن القوانين غالبها غربي، ولقد كان لهذه النظرة أثر سيء جدا على حركة الحياة في بلاد المسلمين، وإن الاكتفاء بالنقد دون تقديم البديل منقصة نبه عليها الفقهاء حتى في الإفتاء، فقالوا: من أدب المفتي أن يدل على البديل المباح عند إفتائه بالحرمة. وكان من نتائج إعراض كثير ممن يسعون إلى الإصلاح عن القانون والقضاء أن وجدنا ما وصل إليه حال القضاة في عصرنا، فأضحى قضاء غير المسلمين أكثر نصفة وعدلا من قضاء بعض المسلمين. وتأتي أهمية هذه الدراسة حول وسائل الوقاية من الإفلاس في وقت اتسعت فيه رقعة الإفلاس بحكم جائحة كورونا وما خلفته من خسائر فادحة على مستوى الحكومات والشعوب والأفراد، وهو مما لا يخفى على أحد الآن، فمن لم يكتو بنار الإفلاس؛ أصيب من دخانه. وإن من الأهمية بمكان، أن تكون البحوث والدراسات العليا في الجامعة مرتبطة بواقع الناس ومشاكلهم، لا أن تبقى حبيسة الأدراج، لا يراد منها إلا أن ينال صاحبها لقب الدكتوراه، فتلك بحوث في حكم الموات، بل الواجب التحام مؤسسة الجامعة مع المجتمعات، وأن تدرس مشاكلها دراسة واعية، وأن تقدم الحلول التي يمكن أن تساهم في نهضة المجتمع، وأن تكون رديفا جيدا لتحقيق خطة التنمية وتحقيق الاستدامة بأنواعها المختلفة، من الاستدامة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية والاستثمارية والفكرية، وهذا مجال مازال خصبا لمن يبحثون عن موضوعات للماجستير والدكتوراه. وقد تميز البحث في كثير من نقاطه، من حيث حيوية الموضوع، وكونه دراسة مقارنة بين الفقه والقوانين الوضعية، وجدية إحياء فكرة الوقاية التي هي خير من العلاج، وتسليط الضوء على أهمية الصلح من الناحية الشرعية والقانونية، سواء أكان الصلح الواقي أو الصلح الودي، وإبراز بعض أدوات المالية الإسلامية في إيجاد حل لمشكلة الإفلاس، خاصة الزكاة في مصرف الغارمين، وكذلك الوقف وما يمثله من مصدر من مصادر التنمية وعلاج كثير من المشكلات الاقتصادية، وهي وسائل تقي من الإفلاس؛ مما يساهم في حفظ حقوق الدائنين، وبما يحقق مقصد حفظ المال، وما ينشأ عن هذا من التوازن الاجتماعي وتحقيق التماسك بين أفراد المجتمع. وإن الرسالة في مضمونها تمثل إشارة إلى جانب من جوانب العظمة الحضارية والإنسانية في الإسلام، وتؤكد على أنه رسالة إصلاحية شاملة لجميع مناحي الحياة، وأن صلاح الإنسانية مرتبط بتطبيق النهج الإلهي الأصيل من جهة، مع الاستفادة من الخبرات البشرية من جهة أخرى، وكيف نحول هذا النهج الرباني إلى واقع ملزم من خلال الهيئات القضائية وسن القوانين التي تسهم في النهضة والتنمية، وما ينتج عن ذلك من استقرار في المجتمعات بما يحقق رسالة الاستخلاف في الأرض، ونشوء العمارة الحضارية من منطلق إسلامي، وهو ما أشير إليه في قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].