وصف الكتاب:
"وبالجملة، يبدو دور أوروبا، ومنتجها التاريخي الأمريكي، إلى تراجع أكيد، ليس فقط بسبب ما بدت عليه من عجز مخز في حرب "كورونا"، في مقابل تفوق الصين الباهر، بل لأن الحرب نفسها بدت كزهرة "عباد الشمس"، التي تتحول حركتها مع نور الشمس، وتتغير ألوانها في حركة دائبة لا تزول، وربما بذات المغزى الذي قصده الرئيس الصيني جي شين بينج في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء الإسباني، كان الأخير يستنجد بالصين في مواجهة تفشى "كورونا" المريع، ورحب الرئيس الصيني، وقال لمحدثه الإسباني "غدا تمضى العاصفة وتشرق أشعة الشمس"، وبالفعل جاءت الشمس القادمة من اتجاه الصين، فما من دولة أوروبية كبرى أو صغرى، تخلفت عن طلب النجدة من الصين، التي راحت تخطو في استعراض عظمة ذي طابع إنساني شامل، وتزحف طائراتها إلى مطارات أوروبا، بمئات وآلاف الأطنان من الكمامات والبدلات الواقية والمستلزمات الطبية وأجهزة التنفس الصناعي، فيما أغلقت أمريكا بابها عليها، وراحت تتعثر في المواجهة، وتنافس إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا في أعداد المصابين والوفيات المخيفة، وتواجه مخاطر التدهور الكامل للنظام الصحي، وتظهر انهيارا أخلاقيا كان ملازما على الدوام لدورات الصعود الغربي، وإلى حد إعلان رئيس الوزراء البريطاني جونسون تفضيله لاختيار ما أسماه "مناعة القطيع"، أي ترك العدوى تتفشى، وتميت الملايين من كبار السن، فيما لا ينجو سوى الأكثر مناعة، على طريقة "البقاء للأقوى" ذات الأصل الداروينى، وفيما بدا أن جونسون تراجع فيما بعد عن كلماته الوحشية بصورة جزئية، فقد واصل ترامب الأمريكي تجاهله لأوروبا الغارقة في المصيبة، وقطع التواصل الجوي معها، ولم يقدم لها جرعة دواء، بل أراد استنزافها وسرقتها على طريقة عرضه شراء شركة "كيور فاك" واحتكار "لقاح كورونا" لأمريكا بمفردها، وهو ما ردت عليه الحكومة الألمانية بقولها "ألمانيا ليست للبيع"، غير أن طريقة ترامب السوقية، وبأصولها النفعية البراجماتية الداروينية، بدت كأنها عقيدة دوائر أوسع في أوروبا العجوز المتهالكة، فقد عجز الاتحاد الأوروبي عن تقديم أي عون مؤثر لدوله السبع والعشرين، وظهرت دعوات في إيطاليا وغيرها، تطالب بترك كبار السن للموت، بهدف تخفيف الضغط على النظام الصحي ومنشآته المحدودة القدرة، ولم تتراجع الدعوات غير الأخلاقية، إلا بعد تدخل الصين بمعوناتها الهائلة عبر الجسور الجوية الذاهبة لأوروبا، وعبر قطارات فائقة السرعة، تحمل شحنات الإنقاذ، من شرق الصين إلى عواصم أوروبا الغربية، لنجدة القارة الشائخة المنهكة سياسيا وطبيا وماليا، إضافة لبروتوكولات العلاج التي تقدم الصين أغلبها، كذا محاولات التسريع بإنتاج لقاح تقودها الأكاديمية الطبية العسكرية الصينية، وهكذا بدت الصين بوجه إنساني مشرق، تقدم المعونات بالمجان، وتكسب نفوذا مهولا لقوتها الناعمة، المصحوبة بتفوق تكنولوجي جبار، وبإمكانيات وفوائض مالية فلكية. ولم يأت التفوق الصيني المذهل من فراغ، ولا هو محض مصادفة طبعا، بل أتى مرتبطا بدورات التاريخ وحوادثه الكبرى، فقد أنهكت الحرب الثانية قلب الغرب المسيطر في أوروبا، وكتبت نهايته في حرب السويس 1956، وانتقلت القيادة الغربية إلى أمريكا، التي أرهقها دور شرطي العالم الوحيد، وزادت نفقاتها العسكرية على حساب قوتها الاقتصادية والإنتاجية، فيما كانت الصين تصعد في هدوء وسلاسة منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، وتحقق في نحو أربعة عقود لا تزيد، أكثر مما حققه الغرب كله في أكثر من خمسة قرون، وبدون أن تحتل أحدا، أو أن تبيد بشرا خارجها كما فعلت أوروبا وأمريكا، وراحت الصين تراكم إنجازاتها، وإلى أن هزمت أمريكا في حرب العولمة الاقتصادية، وألجأت واشنطن إلى الاختباء وراء حواجز حمائية وتعريفات جمركية عشوائية، لم تنجح في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي المدين الأول في العالم كله، بينما تحولت الصين إلى موقع المقرض والمانح الأكبر لبلاد الدنيا كلها، ونفذت أكبر عرض عسكري في التاريخ، تلاه أعظم عرض تكنولوجي وعلمي في حرب "كورونا"، وأثبتت الصين أنها الأقوى مناعة في العالم الجديد، الذي يتخلق اليوم، وبحبر وختم ونفس صيني تماما، وعلى نحو يكاد يجعل أوروبا اللاتينية كأنها "أوروبا صينية"." ..................... من كتاب: كورونا وسنينها - تحولات العالم واقتصاده وثوراته بعد الجائحة