وصف الكتاب:
هذا كتاب أراد المؤلف من خلاله أن يجلو صورة من أروع صور حياتنا العقلية الإسلامية وأكرمها وآثرها بالاهتمام، صورة ابن خلدون. وما أكثر ما كتب عن ابن خلدون، ولكن شخصية مثل شخصيته، لا تزال تتجلى على المفكرين والباحثين بما يتألق في عقولهم وقلوبهم، لا تقف الكتابة عنها، ودرس جوانبها عند حد، فهي نبع ثر فياض. وأكثر ما وقع من الباحثين موقع العناية هو تلك الجوانب التي ابتكر درسها، فأصبح بذلك من أول -إن لم يكن- أول روادها، في عالم الاجتماع الإنساني والنقد التاريخي. وكأن هذه الجوانب المشرقة المتألقة قد صرفت الكتاب عن صور حياته التي تدرجت به بين الروح والمشغلة، وبين الهدوء والقلق، وعن عوامل هذه الحياة المستقرة في باطنه، والمحيطة به في مجالات عيشه، والتي دفعت به إلى شتى الميادين يغامر فيها، ويبلو حلوها ومرها، وأثارت عليه الغرائز الإنسانية، بين الإعجاب به، والرغبة في استغلال مواهبه، وبين الحسد له والاضطغان عليه والائتمار به. وذلك هو ما عنى المؤلف هذا الكتاب به، وهدفه أن يجعل من هذا الجانب الإنساني صورة دقيقة قوية التعبير، تبرزه للناس في مراحله المختلفة، منذ ظهر ابن خلدون في الوجود، يحمل في كيانه مواريث أسرته، تعمل عملها في توجيهه وتعيين مسيرته وسيط الظروف والملابسات التي أحاطت به، في المواطن المختلفة التي جعلت الأقدار تدفع به إليها، وبين التيارات المتدافعة المتعارضة، في المغرب الأوسط: تونس والجزائر، والمغرب الأقصى والأندلس، وهي بيئات الاضطراب، بين البداوة بنوازعها المختلفة، والحضارة باندفاعاتها المطلقة. ثم في المشرق حيث اتخذ من مصر مقاماً له، يرجو فيه أن يقر قراره وتهدأ أموره، فإذا به يعاني ألواناً أخرى من النفاسة عليه والكيد له، وما انعرجت غليه حياته من التوجه لأداء فريضة الحج في مكة، وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، في المدينة، وما أتيه له هنالك من أمور وخطوب. ومن التوجه إلى الشام يشارك بحصافته وتجربته في معالجة ما تعرضت له البلاد الإسلامية من غزو التتر. وبهذا فإن سيرة ابن خلدون التي قصد -أول ما قصد- إلى جلائها لم تعد مقصورة على حياته الظاهرة، وإنما جعلت ترمي إلى التغلغل وراء هذه الحياة، متقصية ما عسى أن يكون هنالك من أسباب عاملة، علانية ومن وراء حجاب، في هذه الحياة وفي ملابساتها وما يتصل بها.