وصف الكتاب:
"بقيت وحدي أتفكر فيما جرى بعد أن جفاني النوم، عذبتني صورة التاجر، التي لم تتزحزح من مخيلتي، مرميا على التراب معفرا بدمه، وكأنه بهيمة نافقة، وآلمتني أكثر قسوة الإنسان ضد أخيه الإنسان، وكيف له أن يقتل أخاه بدم بارد، ثم يأكل طعامه، ويشرب شرابه، ويبتهج بنهب ماله، وكأنه لم يأت على شيء يذكر... لم يكن التاجر عدوا لهم، كان يحابيهم ويقدم لهم كل ما يطلبونه، ومع ذلك غدروا به، وقتلوه ونهبوا قافلته، ثم تركوه مضرجا بدمائه. وما كان لأوديب أن يتمكن من إدراك ووعي ومعرفة وعيش هذا العمق الخفي إلا من خلال آلية الظاهر الحيواني التي خولته نوعا من المسافة الحيادية النقدية في تعامله مع مختلف التناقضات والاختلافات والرؤى والصراعات التي عايشها وشاهدها ودفع ثمنها من نفسيته وفكره ولحمه الحي ليكتسب جدارة الإنسان في سعيه الدؤوب للولادة من جديد. "يبدو هذا الجحش غير طبيعي، ظاهره جحش، لكن باطنه شيء آخر والله أعلم... اقترب الرجل مني بهدوء شديد، فلم أبدِ أي حركة، وأسلمت له قيادي، إذ أعجبني تخمينه بأن ظاهري شيء، وباطني شيء آخر، وهذا عين العقل. فباطني إنسان، وظاهري حيوان". بناء على هذه الآلية المزدوجة لجدلية الخفاء الإنساني، والتجلي الجحشي طاف بنا أوديب من خلال فصول الرواية، متنقلا عبر مختلف مناطق سورية لتكوين صورة شاملة ومتكاملة حول الحدث السوري في ثورته وحروبه، وما يخفيه من ترابطات وتفاعلات جد معقدة في الوعي والمعرفة، وفي التصورات والمعتقدات الدينية والخرافية الغيبية، وفي القهر والتسلط السياسي والقيمي والثقافي والديني، وفي العداء للقيم الإنسانية كالحرية والكرامة، والعدالة والتسامح، والحب والتقدير والاعتراف بالآخر، والحق في المساواة الأخلاقية الجندرية والاعتقادية، وحرية الضمير الديني والدنيوي. هذا ما نكتشفه مع أوديب في عرضه وتناوله الحكائي، بشكل ممتع خلاق مختلف خبايا الرؤى والأفكار والتصورات والمعتقدات التي تؤسس أسلوب الحياة والنمط الوجودي، لدى مختلف المكونات السوسيولوجية والثقافية التي تشكل المجتمع السوري، في تنوعه وتعدده واختلافه الطائفي والمذهبي والإثني واللغوي الثقافي، شيعة وسنة، مسلمون ومسيحيون، ودروز وعرب وأكراد. يحاول أوديب أن يضعنا في الصورة الحقيقية لما يعتمل في داخل معرفة ووعي وممارسات، ورؤى وأفكار ومعتقدات...، كل هذه المكونات تبعا لحدود ومحدوديتها قبولها وتقبلها للآخر، ومدى استعدادها لعيش صيرورة التحول والتغيير المجتمعي. وما تحمله هذه المكونات السوسيولوجية والثقافية من قدرة على الحوار والتواصل وفق جدلية الانغلاق والانفتاح في علاقاتها على مستوى الذات والأخر والعالم. كما يكشف لنا الوجه الحقيقي المتوحش لكل هذه المكونات، وهي تتلبس قناع أو ظاهر الإنسان، بينما تخفي باطنها الهمجي الذي يتخطى بكثير توحش وشراسة علاقات الافتراس الحيواني. وهذا ما يمثله سلاخ الجحش/ الـ قداح، وذباح الوحش/ الـ جراح، من الشيعة إلى السنة، ومن الدروز إلى الأكراد...، معريا مناطق الظلال البشعة، المشحونة بالحقد والكراهية، والغارقة في العدوانية والتسلط والقهر. حيث أفسد النظام السياسي كل شيء، وعرض الإنسان لنوع من المسخ المرعب وهو يسلخ عن البشر قيمتهم الإنسانية ويحولهم في حقيقتهم الاجتماعية إلى وحوش قاتلة دون شفقة ولا رحمة، بأقنعة بشرية لا تكشف باطنهم الهمجي الحيواني، أي ما دون خط الحمير حسب التمييز البشري المتغطرس والمتعجرف. "ذبحوا الأطفال أمام عيون أمهاتهم المنكسرات، ولم يرأفوا بحالهن، وسيق كبار السن، والنساء إلى مقر القطعة العسكرية، وهناك قرر القائد إذلال الرجال أكثر فأكثر، فأمر بالتحرش بالنساء أمام ذويهم." وقد وضع أوديب بين أيدينا العشرات من الأفعال والممارسات القذرة التي مارستها جميع الأطراف، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، بشكل متفاوت في التوحش والهمجية في حق الإنسان، بالمعنى الإنساني والأخلاقي المتعارف عليه في المواثيق والأعراف والاتفاقيات الدولية، كما طالت هذه الممارسات الحيوانية في مواقف مقززة في قمة البشاعة، الباعثة على الغثيان. حيث لم يتم استثناء الحيوانات من عمليات الاغتصاب الجماعي، بطرق سادية عدوانية مسكونة بهستيرية احتفالية مرضية، يخجل الحيوان من القيام بها. هذه الجوانب المظلمة والمقرفة والمروعة، من التوحش والإفلاس الإنساني، التي تناقشها الرواية بعمق التناول الفني للشكل الروائي، من خلال التوالد والتجاور الحكائي.