مذكرات دي

• سنة النشر: 01 Jan 1970.
• عدد مرات التحميل: 502882 مرّة / مرات.
• تم نشره في: الإثنين , 14 ديسمبر 2015م.

وصف الكتاب:

تندرج رواية (مذكرات دي) للكاتب أحمد سعداوي، الصادرة عن دار نابو للتوزيع والنشر، بغداد / العراق 2019، ضمن ما يسمى روايات ما بعد الحداثة، وهذا التوصيف لا يعني ثمة وصفة أو كليشهة منمطة لها، أو مقاسات وخصائص لا يحيد عنها الكاتب، ولكن ثمة ملامح وسمات تميزها مثل الاهتمام بالعنوان لربط الخارج بداخل النص، عبر الترميز والإيحاء... وتكون للعتبات دور يسبق النص في الكشف والتمهيد لمعرفة الخطوط العامة للرواية، فضلاً عن توظيف تقنيات المسرح والسينما وتوظيف اللوحة... إضافة إلى تمردها على الأساليب التقليدية لرواية الحداثة وضوابطها... والسعداوي هنا شأنه شأن أي روائي له أسلوبه وقناعاته الفلسفية، التي تنعكس على خطابه الروائي الذي يميزه عن الآخرين، فضلاً عن ذلك فهو في كل عمل، يحاول تطوير تقنياته السردية وتبيان رؤاه الفكرية ... فقدم هنا عملاً تجريبياً، كُتب عن طريق ثلاثة مسارات، الأول، على وفق ما تجترحه المخيلة لعالم مخلق عبر أحلام اليقظة، وظف فيه أساطير بلاد النهرين لا سيما بدايات تشكل النص المؤسس اللاهوتي في زقورة سومر، والثاني، جاء عن طريق كتابة مذكرات دي بوساطة السرد المتسلسل باليوم، والشهر، والسنة، والثالث، كُتب عبرَ الاشتراطات الواقعية لشخوص الرواية. إضاءة رواية مذكرات دي: التفاصيل اليومية لفتاة ولدت معاقة، وانسحب هذا العوق على سلوكها الاجتماعي الذي جعلها تتقوقع على ذاتها، وتعيش عزلة هي من اختارتها لشعورها بفقدان الكثير من مقومات الشخصية الطبيعية التي تجعل منها رقماً صعباً في محيطها الاجتماعي. تظهر لنا فصول الرواية كم الضغوط والمعاناة والانكسارات المركبة التي تعرضت لها: منها إلى جانب معاناتها من العوق، شعورها بالحرمان من حنان الأم، فضلاً عن أن فقدانها لأمها كان قد ارتبط بتعدد روايات موتها الغامض، إحداها أنها هربت مع عشيقها، ثم شعورها بأنها غير جميلة، بسبب جمال أختها نينوى الباذخ، إضافة إلى أنها تعيش في أسرة مأزومة، لا تشعر بالرعاية الأبوية، فالأب معزول يعيش حالة انزياح ذاته عن مركزها، ذات مدحورة مهزومة، مهمشة، ولو أنه يظهر تمرده على العادات والتقاليد والخرافات في حواراته النظرية إلا أنه في حقيقة الأمر خاضع لها ، ولسطوة السلطة. وربما المؤلف عبرَ عائلة عبد الواحد، يغمز إلى حال العراق عن طريق أسماء العائلة نينوى، وديالى، وميسان،... وما فاقم أزمتها هو أن أخاها ميسان، ضعيف الشخصية مهزوز، يحاول الهروب من واقعه بالهجرة، فظفر بها، وانقطع عن الأسرة، فوجدت نفسها في أتون صراع محتدم من أجل اثبات ذاتها، بوصفها ذاتاً فاعلة بعد إن كانت منكفئة عليها، والتحرر من سطوة المهيمنات الاجتماعية، فضلاً عن الانكسار الذاتي بسبب عوقها وما رافقه من يتمها من جهة الأم، واغترابها عن أبيها، وشح جمالها، ما جعلها تتمرد على واقعها الاجتماعي، لكنها في خضم صراعها مع حالة الاغتراب التي تعيشها فوظفت أحلام اليقظة للهروب من ضغط الواقع الذي يشكل عدواً عليها مجابهته، في نهاية الأمر تمردت وطفقت تبني واقعها، وتتحكم به بإرادتها، إذ إنها نضجت فكرياً وأصبحت غير خاضعة لوصاية أي أحد، الأمر الذي دفعها نحو القراءة، والركون نحو كتابة مذكراتها وتدوين تخيلاتها أو أحلام يقظتها، لتتمرد على منطق المصائر الذي يشبه لعبة النرد، والهروب من ضغط الواقع المأزم، كمعادل لخلق التوازن وخفض حالة التوتر والضغوط عبر إعادة النظر بمجمع الآلهة الذي فيه تُحدد المصائر، وتُقدر الأقدار للأفراد، فتُعيد بناءه على وفق قناعاتها وحاجاتها بوصف عالم الأطياف بالأساس نتاج مخيلة بشرية، وهذا ما يشي بشكل خفي عن نظرتها إلى الوجود. وكان لوالدها الأثر الكبير في تزويدها بأدوات معرفية ساعدتها باكتشاف العالم، وقراءة محيطها الاجتماعي، فأعادت قراءتها للواقع بما يتوافق مع زمنها والمتغيرات التي طرأت في العالم، وعلى محيطها الاجتماعي، والسياسي، والثقافي...، فالكشف عن المناطق المعتمة في شخصية (دي) حتى بعد أن تجاوزت محنتها بالتقوقع والعزلة عن طريق توحدها مع شخصية يوسف التي كبدتها معاناة مريرة إلى أن تفاعلت بقناعة مع حبه لها، واستجابت لمقولة Dont dive alone لا تغطس وحيداً... لكن مع ذلك، يعود بنا الكاتب للمؤثرات التي ساهمت بعزلتها والتي أثرت على تقهقر شخصية (دي) فيشير إلى مشاعر مقرفة نتيجة لقبحها كانت تعانيها في زمن عزلتها، ففي اعترافات تخصّ ديالى "قرأ شتائمها لنفسها، صفحات كثيرة مليئة بأقذع الشتائم واتهامات بأنها قبيحة بسبب شكل أنفها وبثور حب الشباب...وثمة حكاية عن حبّها المؤلم لشاب من المنطقة.... انفصلا في النهاية، لأنه طلب منها أن ترفع تنورة صدريتها الزرقاء إلى فخذيها حتى يرى أن رجلها المعطوبة ليست مشوهة". ص 383هذه الموقف جاء بعد زوال مؤثرات عوقها وشحة جمالها وارتباطها، بل توحدها مع يوسف، ورسوخ قناعاتها الفكرية ونضوج وعيها. هذا التلاعب يعيدك لإضافة شيء جديد يعزز سبب انطوائها وهروبها من الآخرين. ص 383 ما يعني أنه يبعثر خواص الشخصية بشكل اعتباطي وعليك إعادة لصقها، وإنتاج رؤية متماسكة جديدة بشأنها. لذلك نحت باتجاه مغاير فبدلاً عن أن ترضخ لضغوط النسق المضمر، تمردت عليه عبر عنادها بالدفاع عن مواقفها، وفرض إرادتها، إذ تتمتع بقوة تميزها عن الآخرين، لا تستجيب للتفاعل معهم إلا بعد عناء ودلائل مُحكمة ورصينة، توفر كل أسباب القناعة، حتى أصبحت سيدة قرارها، وتدير عالمها الافتراضي المتخيل بما يحاكي واقعها الموضوعي، عكس والدها الذي استسلم لتك الإرادة على الرغم من معرفته أنها متخلفة وغير واقعية وبعيدة عن العقل وتشاكس المنطق... هذا ملخص لبطلة القصة، التي لا تتعرف على خواص شخصيتها إلا بعد تجميع مفاتيح شفراتها المبعثرة في طريق القارئ حتى الصفحات الأخيرة من الرواية، كذلك الحال ينسحب على الإستراتيجية التي رسمها الكاتب لشخصية الأب عبد الواحد، ومن أجل معرفة شخصيته، على القارئ أن يجمع ما يبوح به الراوي على دفعات في ثنايا النص، فمنها الظاهر، والآخر الخفي. الفضاء الجمالي يبدأ الكاتب ببث شفراته ابتداءً من العنوان، مذكرات دي (D) الذي يشكل علامة ترجئ الوصول إلي معناها نحو علامات تأتي في السياق الدلالي بعد تتابع الأحداث عبر دفعات متباعدة.... إن اختيار ديالى لحرف D بدلاً عن اسمها، يرمز إلى حالة العزلة والتقوقع والتضاؤل التي تعيشها، وفي ذات الغلاف وعلى الحاشية السفلى العمودية، كُتبت العبارة أو شبه الحكمة باللغة الانكليزية Dont dive alone لا تغطس وحيداً، فهو ربط ما مكتوب على الغلاف/بالمتن، الخارج/ بالداخل. وثمة دعوة للتحرر من الوحدة والعزلة، ومن هذه العبارة اشتقت ديالى اسم الطيف أو الملاك الحارس الذي يرعاها وينقذها من التفجيرات الـ (ديفالون). العتبات وقبل البدء بسرد الراوي العليم والمهيمن رؤيته من الخلف لحكايته، يسبق المؤلف متن الرواية بأربعة مقولات أو ما يشبه الحِكم، أو الكواشف تؤشر أو توحي أو تمهد لما سيأتي، لكنها لا تشمل ثيمات الرواية أجمعها، بل، ثمة وفرة طامية من الإشارات والإحالات والرموز والشفرات، ورصد أماكن غير مرئية كما يفعل المصور الحاذق، يخلق من حجر في الصحراء نصاً بصرياً ساحراً... "إذا اختفى الجميع من حولكِ فلن تشعري بالوحشة ...دي "إن غموض الحب يكمن في أن دحضه أو إثباته...". جمال راجح "المحدود نادر ولا يقدر بثمن.... ". ديفالون "إنه شيء مرعب وقاس أن يرجع الإنسان إلى ذاته... ". يوسف زكي هذه العبارات تشكل اختزالاً لبعض ثيمات النص المركزية، فما تقوله (دي) هو اقناع ذاتها المكبوتة، بأنها كانت قد تعايشت مع عزلتها، لكنها في الحقيقة تعبر عن شعور زائف بالسعادة، هذا الأمر يشكل حالتها في أثناء عيشها بدائرة التقوقع والعزلة الأولية التي غادرتها بعد عناء مرير، تكلل بوضع قدمها على سكة المستقبل غير المحسوم... أما مقولة الـ ديفالون: تكشف عن فلسفة أو رؤية (دي) الوجودية، فهي منحازة لفكرة الآباء المؤسسين الأوائل للاهوت، كهنة المعابد الذين خرجت إيديولوجيتهم الدينية من زقورة سومر، فالعالم الآخر في نظر العراقيين الأوائل بعد الموت هو العالم السفلي فهم لا يعرفون الجنة، لكنهم يصفون عالم الأموات بشكل معكوس لبهجة الحياة التي يعيشونها: "إن طعامهم هو من الطين وإن غذائهم هو التراب، لا يرون النور أبداً، فهم يسكنون في الليل... وتوضح لنا أيضاً ملحمة كلكامش، عند موت انكيدو، تفاصيل مرعبة عن حالة الموتى "إذا شرحت لك أحوال العالم الأسفل الذي أعرفه الآن، فسوف يجعلك ذلك تجلس وتبكي....فما كان عزيزاً عليك، وما كنت تحبه وما كان ينعش قلبك أصبح الآن أشبه بعود المغزل المتآكل من الديدان...والجميع غرقى في التراب"[i]. إذاً كانت حياتهم غناء مترعة بأنواع الفواكه من تين وعنب وتفاح...، وتموج أرضهم بالخضرة...، والأنهار تفيض بتنوع أسماكها، والطيور بمختلف أشكالها، والأزهار بجمالها على الأرض وفي الأهوار حيث الزنابق بأصنافها والماشية التي تكتظ بها أرض السواد لذلك (العراقيون يتشبثون بحب حياتهم الغنية التي تشبه جنة عدن، الأمر الذي يجعلهم يحزنون حزناً شديداً على موتاهم الذين سيفتقدون هذه المتعة والجمال... ولكن العتبات أو الكواشف لا تشمل ثيمات الرواية أجمعها فضلاً عن أن الرواية تزدحم بالرؤى الفكرية والتساؤلات الفلسفية المباشرة أو المضمرة، ولاسيما ما يتعلق منها بما هو وجودي أو إيديولوجي، و التي كانت قد أثرت بمصائر مخلوقات المؤلف التي تعبر عن مجمل شرائح المجتمع العراقي، وعبرَ مستويات متعددة من السرد، تبدأ الرواية بتوظيف (مجمع الآلهة) التي تشكل زهاء ثمانين صفحة من مساحة الرواية، وهي تمثل أحد منافذ دي عند الهروب من ضغط التوتر، حيث الذوبان في سحر القصص التي تظهر صراع الآلهة القديمة والمخلقة المعبرة عن نسخ الأسلاف المعدلة على وفق قناعات وإرادة دي، التي تشكل في ثقلها المعادل لسرد الراوي، فعبر النقل والانزياح عن نص متداخل بوساطة التلاعب بالأسماء... أو الإبقاء على أسماء الآلهة والملوك كما هي آركولوجياً، فتارة نحن إزاء النص الأصلي، وتارة أخرى نشعر أمام نص اجتاحه الانزياح في محتواه وأخرجه عن سكة النص المؤسس التاريخي، فنفخ فيه حياة جديدة، واخضعه عن طريق مخيلة (ديالى) لاشتراطاتها، بالتحكم في سلوك هذه الآلهة والأطياف ونقل شحنات العواطف والانفعالات من غضب، وفرح، وغيرة، وشر، هذا السياق الأسلوبي الذي اعتمده المؤلف منح الألواح السبعة تفسيرات جديدة معاصرة، أظهر تكيفها مع الزمن الراهن، وفي الوقت نفسه يتيح الفرصة لعقد المقارنات بين الإيديولوجيات الدينية. إضافة إلى إيهام القارئ المعتمد على القراءة الأفقية (الخطية) بأنه يتابع نسيجياً طبيعياً للنص، يستمتع بقراءته عن طريق سحر الحكايات والصراع بين الأطراف التي تشكل محتوى البنية، أما في القراءة العمودية، فتناصات مجمع الآلهة خاضعة لقراءات وتأويلات متعددة، ترتبط بمستويات الوعي والثقافة والانحياز الإيديولوجي، وتفجير الأسئلة بشأن المضمر من الأنساق الاجتماعية التي تضغط باتجاه تنميط السلوك الفردي على وفق مهيمنات السلوك الجماعي الخاضع للمؤثرات الدينية والإيديولوجية.