وصف الكتاب:
يتحدث في أكثرها، إن لم نقل فيها كلها، عن شخصيات تتصف باقترابها من مشارف العمر، وهذا ما قد يفسر اختياره هذا العنوان «ما تأخر» أو «ما تبقى» من القول، مثلما ذكر في إحدى القصائد(ص82). ففي القصيدة الأولى ، وهي في رأينا من أكثر قصائد الديوان دلالة على هذه الحال التي تتجاوزها الشخوص، وعنوانها « رجل في السبعين وسيدة في ... « في إشارة لتأدُّب المتكلم الجمّ في حديثه عن تلك السيدة، إذ لا يريد أن يقول وهي أيضا في السبعين.. نجد حوارا متقطعا، بين الرجل السبعيني، والسيدة، وفي هذا الحوار تتوافر الإشارات التي توحي لنا بوجود عبارات يفترض أن يتفوه بها كل منهما للآخر، فعندما تسأل السيدة السبعيني لا يجيب بل يفترقان، تقول المقطوعة الأولى: رجل في السبعين وسيدة في.. يلتقيان. بمشفىً في عمّان ... أتعرفني ... يفترقان وهذا الحرص من حميد سعيد لتقطيع الحوار بفجوات تمثل كلامًا محذوفًا، يُفترض أن يجري بين المتحاورين، يؤكد على الملاحظة السابقة، وهي أن المتكلم لا يريد أن يفجع القارئ بالحقائق عن هؤلاء الذين ناهزوا السبعين، أو تجاوزوها، فهو يقول في مقطوعة أخرى من القصيدة تاركًا حيزًا من الفراغ للجزء غير الملفوظ من الحوار: كان يراقبها وهي تحرك جمر الأرجيلة هل هي؟ أم تلك امرأة تشبهها ؟ ... غادرتِ المقهى فتذكرَ خَفْقَ عباءَتها ابتعدتْ، شِخْنا وتغيرت الدنيا إلا خفق عباءتها ... ظلَّ كما كان ومن اللافت أن حميدا يقترب من إجراء حوار بين السبعيني والسيدة ،فجاءت عباراتهما مجزأة. والملفوظ منها يوحي بالمضمر، والمسكوت عنه. فالمفاجأة التي يشعر بها السبعيني أنه لا يستطيع التعرف على السيدة، أو بكلمة أدقّ، ليس على يقين من أنها هي التي يعرف. وبعيد هذا الحوار يتضح أن السيدة هي هي، ولكن الأخرى تفاجئه بما لم يكن يتوقع، فهي تكاد لا تتعرف عليه لتغيره مع أنها كثيرا ما تتحدث عنه لأحفادها: في دائرة الهجرة فاجأه صوت امرأةٍ يأتي من زمن جدِّ بعيد أأنتَ بلى ... أوَ أنتِ .. – لقد كنتُ أحدث أحفادي عنكَ وهذا أوسَطُهم سيزورك في المقهى ذات صباح فمن سخرية الزمن أن هذه السيدة التي كان قد عرفها، وعرفته، في الماضي البعيد جدا، قد أصبحت ذات أحفاد، وعوضا عن زيارتها هي له ستنتدب حفيدها الأوسط لذلك، ومن سخرية الزمن أيضا أن سيدة أخرى تجاوزت هذا المقدار من العمر تسخر من سيدة أخرى، لأنها لا تزال تتظاهر بالصبا والشباب اللذين وليا على الرغم من أنها تقبع منذ زمن على طرف من العمر ، تقول هذه السيدة لجارها السبعيني: بالأمس، وكنتُ أمشِّط شعري في صالون للتجميل شاهدتُ امرأة بغدادية وهي عجوز عجفاء .. تكحِّلُ عينيها وتلوِّن خديها وأظافرها وشفتيها مثل صبيَّة تبادلنا القول ذكرتُ لها اسمكَ قالت: - كانْ... ويكتفي السبعيني بهذه الـكلمة (كان) وهو الفعلُ الذي يعني، في هذا السياق، كأنَّ السبعيني لم يعد موجودًا. ومن المفارقات التي تشعرنا بما يؤول إليه الآن – وقد بلغ هذا الحد من العمر – أن المتكلم في القصيدة يلتقي سيدة في مثل عمره تمامًا في مطعم بأحد أحياء عمان (الدوار الرابع) ففوجئ بها وهي تصيح: يا ... أنتَ هنا؟ منذ سنين! فتعلق قائلة : وأنا أسكنُ هذا الشارع منذ سنين وتشير إلى بيتٍ غير بعيدٍ بعصاها