وصف الكتاب:
لقد شاء الله تبارك وتعالى أن تكون خاتمة تاريخ دولة الإسلام بالأندلس على أيدي أحد المنتسبين للأنصار؛ الذين كانت لهم بُغية في تسلم الحكم والخلافة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة (سنة 11هـ) ليبايعوا سعد بن عبادة الأنصاري([1]) .. حتى قالوا: "مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ"، وانتهى الأمر بخلافة أبي بكر الصديق –رضي الله عنه-([2]). وها نحن أمام تاريخ جديد للأنصار في تولي حكم المسلمين في الحقبة الأخيرة من تاريخ الإسلام بالأندلس. إنها حقًا لمفارقة كبرى، ووصل عجيب من عجائب هذا الزمان، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}([3]). لمّا فتحت الأندلس (92هـ/711م) واستقر قدم أهل الإسلام بها؛ نزل بها من قبائل العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم([4])؛ منهم "الأنصار" الذين كان من أمرهم ما كان. والأنصار في التاريخ الإسلامي هم أهل يثرب الذين ناصروا رسول الله في الإسلام محمد –صلى الله عليه وسلم- وهم ينتمون إلى قبائل الأوسوالخزرجابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث . هاجروا إلى يثرب بعد سيل العرم الذي أودى بسد مأرب فدخلوها بعد أن حاربوا بها يهود حتى استقر لهم الأمر بها، وكانت بين الأوس والخزرج حروب طوال قاسية كان آخرها يوم بعاث قبل الهجرة النبوية. كان الأنصار من القبائل العربية التي هاجرت إلى المغرب و الأندلس، وهم الجم الغفير بالأندلس، وكان جزء من الأنصار بناحية طليطلة، وهم أكثر القبائل بالاندلش في شرقها وغربها. ففي الاندلس منهم أبوبكر عبادة بن عبد الله بن ماء السماء المشهور بالموشحات وهو من ذرية الصحابي سعد بن عبادة (رضي الله عنه)، ومنهم أيضا بنو الاحمر ملوك غرناطة من ذرية قيس بن سعد بن عبادة، وهم آخر حكام المسلمين في الاندلس وبهم انقرض مُلك المسلمين عام 1492م. انتشر تواجد الأنصار في مناحي مدن الأندلس، وخير ما ذكر عنهم أجلاه ابن الفرضي (ت403هـ) في كتابه "تاريخ علماء الأندلس"، وابن بشكوال (ت578هـ)، في "الصلة في تاريخ أئمة الأندلس"، وابن الآبار (ت658هـ) في "التكملة لكتاب لصلة"، وغيرهم من المؤرخين ومؤلفي كتب الرجال والتراجم والرحلات وكتب الجغرافيا، وسجلوا لنا تراجم العديد من علماء الأنصار، من مختلف مدن الأندلس. وإذا تأملنا دور الأنصار في الحياة العلمية بالأندلس من القرن الثالث حتى القرن السابع الهجري، ألفيناها تقدم لنا نموذجًا هامًا يضرب به كمثال على دور القبائل العربية في الحياة العلمية بالاندلس خلال هذه الفترة التي ظهر فيها نحو أربعمائة وخمسمون عالما من علماء الأنصار. ثم تمثل هذه الدراسة محاولة للتعرف على مآرب أعلام هاتين القبيلتين ، فما أحوجنا إلى الوقوف مليا عند أعلام الأنصار، واستقراء أعمالهم العلمية الدقيق منها والجليل، إذ أننا حين نفعل ذلك سيتوفر لدينا سجل متراكم من الحقائق عن التاريخ العلمي لهاتين القبيلتين ودورهما البارز في هذا الجانب. ومما يكسب هذا الموضوع أهمية أن هذا البحث سيقدم مادة علمية طيبة من خلال دراسة دور قبيلتبي الأوس والخزرج في الحياة العلمية بالأندلس من خلال كشف النقاب عن علمائها بالأندلس. وهنالك العديد من مشاهير وأعلام هذه القبيلة الذين اعتنوا بالعلم وأحسنوا تقييده، وأخذ الناس عنهم، وذاع صيتهم وعلمهم في مدن الاندلس هنا وهناك، وازدهرت على أيديهم الحياة العلمية في الأندلس.